دخلت الأخت طالبة العلم، وسلَّمت بتحية الإسلام..
جلست وهي تتصنَّع الابتسامة..
أخذتْ تُمعن النظر في مضيفَتِها..
اممممم.. إنَّها هي.. تلك الداعية بمسجد.. كانت تدَرِّس هناك من زمن بعيد..
وجاءت بنات المضيفة..
ست بنات في أعمار مختلفة..
أكبرهن في مثل عمرها..
سألَتْها في فضول..
ألسْتِ أنتِ فلانة التي كنتِ تدرِّسِين بمسجد...؟!!
ابتسمت الأختُ المضيفة..
- نَعَم..
- ولماذا تركتِه؟! هل لك أنشطة أخرى الآن؟!
ابتسمت الأخت المضيفة:
- طيب.. نقوم بواجب الضيافة أولاً..
ثم همسَت في أذن ابنتِها، فقامت..
- تركته منذ زمن؛ لأنه كان من الصعب التوفيق بين البيت والأولاد، وكثرة الخروج والمسؤولية عن مسجد..
قاطعتها طالبة العلم:
- وماذا في هذا؟! معظم الأخوات يذهبن إلى المساجد، ويتركن أولادهن في دور الحضانة، ولا يصح أبدًا أن نترك الدعوة وطلب العلم من أجل الأولاد، وقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ}، ولا ينبغي أبدًا أن يطغى حبُّ الأولاد على حب الله تعالى..!
اتسعت ابتسامة الداعية:
- وهل تنحصر محبة الله في الدعوة في المساجد؟!!
- بالطبع لا، لكنه باب فتح لك وأنت أغلَقْتِهِ..
- أختي، كثيرات ممكن أن يحلُّوا مَحَلِّي في المسجد.. كثير من الدعاة يظهرون بالتلفاز.. الكتب والأشرطة في كل مكان.. لكنْ: هل هناك أحد يمكن أن يحل محلي في بيتي وأبنائي وزوجي؟!!
سكتت طالبة العلم برهةً ثم انبَرَت:
- أنَتْرُك طلب العلم إذًا، ونَجلس في البيت نطبخ ونصرخ في الأولاد؟! ليس لنا همٌّ إلا انتظار الأزواج.. نعيش عيشة الأنعام؟!!
افتَرَّ ثغر الداعية عن ابتسامة لطيفة:
- أختي، مَن قال: إن هذا هو المطلوب؟!
اليومَ حين أنظر لبناتي، وهن خاتماتٌ لكتاب الله تعالى..
وقد علَّمتُهن "أنا": كيف يتلونَ القرآن؟
وحفظتهن البخاري ومسلم..
ورسخْنَ في السيرة والقصص..
أما عن المتون، فحدِّثي ولا حَرَجَ ما شاء الله، يحفظن كل ما سمعتِ اسْمَه من المتون..
ولو سألتِ إحداهن عن مسألة فقهية أو عقدية لأجادت الشرح والتأصيل..
وصغرى بناتي تتعلم اليوم القراءات، وكبراهن إن سألتِها عن حديث أخرجَت لك طُرُقه، ووصفَت لك درجتَه..
وأما ثقافتهن وعلومهن الدنيوية، فمنهنَّ الطبيبة ومنهن المعلِّمة..
وأسأل الله العظيم كما أعانني على هذا العمل الطيب أن يرزقني أجرَ ذلك!!
تخيلي، أختي..!
أنا تركت المسجد في هذا الزمن لأجعل من بيتي مسجدًا لبناتي..
كنت أرضع ابنتي وفي يدي المصحف أقرأ.. وهي ترضع!!
كانت تقلق نومي ليلاً؛ فأقوم بين كل نومة لها، وأخرى فأصلي ركعتين خفيفتين، وأستغفر ربي على تقصيري في العبادة الراتبَة؛ فهو سبحانه مَن أمَرَني بعبادته بتربية أولادي..
كانت ابنتي تبكي، فأحملها بين يدي، وأنا أصلي؛ كي لا أضيع السنن، وأكثر من الاستغفار والدعاء والتسبيح، ولما بدأت ابنتي النطق علمتها كلمة التوحيد وسورة الإخلاص، وظهَرَت النبتة الطيبة.. أسقيها بماء القرآن..
فصارت {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّار}..
وقد تركت مسجدًا واحدًا يومئذ، والآن يمكنني أن أفتح 6 مساجدَ..
تخيلي..!
هذه هي الصدقة الجارية..
هذا هو العلم الذي ينتفع به..
فلكل مسلم في كل وقت عبادة..
وأنا عبادتي كانت تربية بناتي، وحسن تبعُّلِي لزوجي..
وربي سيحاسبني عليها..
تخاذلت طالبة العلم:
- وطلبُ العلم؟! تمتمت
ما لا يُدرَك كلُّه لا يُترَك جُلُّه، ومَن خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ((ألا إن سلعة الله غالية.. ألا إن سلعة الله الجنة))، فمن شاء الجنة فليبدأ بالفروض، وليغتنم الأوقات، أما ترجيح طلب العلم وتعليمه على الفروض، فهذا من باب عبادة الهوى، وهي مدخل الشيطان..
سكتت طالبة العلم قليلاً، وبعدها......